سورة العنكبوت - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 29/ 36- 40].
هذه لمحة سريعة من صواعق أو عناقيد الغضب الإلهي على أقوام عتاة، بلغوا الذروة في الكفر والفساد والظلم، فجوزوا بأشد العقاب. وهم قبيلة مدين شمال خليج العقبة، وأصحاب الأيكة غيرهم، أرسل الله إليهم النّبي شعيبا عليه السّلام، فأمرهم بعبادة الله تعالى، والإيمان بالبعث واليوم الآخر، والخوف من بأس الله وعذابه، ونهاهم عن الفساد في الأرض وعن إنقاص الكيل والميزان، فقابلوه بالهزء والتكذيب، والإصرار على الكفر والعصيان، فأهلكهم الله بالرّجفة: وهي الزّلزلة العظيمة، فأصبحوا جثثا هامدة، ودمّر الله ديارهم. وهذا نحو من الخسف.
واذكر أيها النّبي عادا وثمود، أما قبيلة عاد فكانوا يسكنون الأحقاف قرب حضرموت في بلاد اليمن، أرسل الله إليهم هودا عليه السّلام، فنصحهم وأنذرهم، فلم يصدّقوه وآذوه، فأرسل الله عليهم ريحا صرصرا، دمّرت ديارهم وأبادتهم.
وأما قبيلة ثمود: فكانوا يسكنون في الحجر قريبا من وادي القرى، بين الحجاز والشام، وما تزال مدائنهم ظاهرة إلى اليوم، أرسل الله إليهم النّبي صالحا عليه السّلام، فدعاهم مثل هود عليه السّلام إلى عبادة الله وحده، فلم يستجيبوا، وزيّن لهم الشيطان أعمالا سيئة، فكفروا بالله تعالى، واجترحوا السيئات، ومنعوا الناس عن الدّين الحقّ والطريق القويم، وكانوا أهل عقل وبصيرة، لكنهم لم يؤمنوا بربّهم، ولم ينتفعوا بطاقات فكرهم وقلوبهم، فعاقبهم الله، وأهلكهم بالطاغية أو الصيحة الشديدة، وبادوا، وبقيت آثار ديارهم عبرة لكل مارّ عليها.
وأهلك الله تعالى قارون بالخسف وتدمير دياره، وفرعون وهامان وزيره بالإغراق في البحر الأحمر، وقد أرسل الله لهم موسى عليه السّلام، فدعاهم إلى توحيد الله عزّ وجلّ وترك عبادة الأوثان، وأتاهم بالآيات الواضحات والمعجزات الظاهرة كالعصا التي تنقلب حيّة عظيمة، واليد التي يدخلها في فتحة قميصه، فتصير ذات إشعاع كالشمس أو القمر، فاستكبروا عن الطاعة لله وعبادته، ولم يكونوا مفلتين من العذاب والأخذ، ولا قادرين على الهرب من العقاب، بل أدركهم أمر الله تعالى وبطشه، وصاروا عبرة للمعتبر، وعظة لكل ناظر.
إن هؤلاء الأقوام جوزوا بما يناسبهم من ألوان العذاب، وكانت عقوباتهم إما بالريح العاصفة كقوم عاد التي دمرتهم، وإما بالصيحة أو الرّجفة كقوم ثمود وقوم لوط، وإما بالخسف كقارون الطاغية، وإما بالإغراق في البحر كفرعون المتألّه الجبّار، ووزيره هامان الماكر، كل عقوبة تطابق ألوان الظلم الصادرة من أصحابها، وما كان لله العادل عدلا مطلقا أن يظلمهم أبدا فيما فعل بهم، ولكنه سبحانه أهلكهم بذنوبهم، وبظلمهم أنفسهم، بكفرهم بربّهم وإنكار وجوده أو نسبة الشركاء له، أو ادّعاء الألوهية.
إن هذا الجزاء والدّمار عبرة وعظة لأهل مكة وأمثالهم، ممن ولجوا في العصيان والكفر والشّرك، وتكذيب الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم، وهي للتاريخ مثل مثير، وتذكير للمعتبرين.
حال عبدة الأصنام:
عجيب أمر عباد الأصنام، وغريب ما تفكر به عقولهم، ولا أجد مسوغا لهم في عبادتهم الأصنام إلّا محض التقليد الأعمى، فإنهم يبنون في فراغ، ويعملون في الهواء بدون ثبات، لذا شبّه القرآن حالهم في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك، بالعنكبوت التي تبني وتجتهد، فإن بناءها ضعيف، يتبدّد متى مسّته أدنى هامّة (وهي المخوف من الأحناش) أو دهمته نملة، وكذلك أمر هؤلاء وسعيهم مضمحل، لا قوة له ولا معتمد، وكرّر القرآن الكريم في مناسبات مختلفة أن هذه العبادة من الوثنيين لا تنفعهم شيئا، وإذا تركوها لا يصيبهم ضرر، فكيف يليق بهم ترك عبادة الله القادر، والتوجه نحو هذه الأحجار والأوثان؟! وتكون فائدة ضرب الأمثال في القرآن، لتقريب الأشياء إلى العقول والأفهام، كما ذكر الحقّ سبحانه في هذه الآيات الشريفة، قال الله تعالى:


{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 29/ 41- 43].
المعنى: إن فعل المشركين أو صفتهم في تأليه الأصنام وعبادتها من دون الله، أملا في نصرتهم ونفعهم، ودفع الضّر عنهم، كصفة العنكبوت في ضعفها، تتخذ لنفسها بيتا لحمايتها من الأذى، ولكنه لا يفيدها شيئا، فإنه سرعان ما يتبدّد بالريح أو بالحشرات المداهمة. فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم الأصنام شيئا، ولا تدفع عنهم شرّا، وتضيع جهودهم لوضعها في غير موضعها، فهم في عملهم في غاية الضعف، مثل بيوت العناكب التي هي أضعف شيء وأوهاه، يخرّب بأدنى شيء ولا أثر له، فكذلك أعمالهم لا أثر لها، فلو كانوا يعلمون أدنى علم أن عبادة الأصنام لا تنفع، ما فعلوا ذلك، ولأقلعوا عما يعملون، لكنهم في الواقع جهلة أغبياء، لا يعلمون أن هذا مثلهم، وأن حالهم ونسبتهم للحق كهذه الحالة.
ثم توالى تأكيد الله تعالى انعدام فائدة تلك المعبودات، فذكر أن الله سبحانه يعلم أن الذي يعبده الوثنيون من الأصنام أو غيرها من الجنّ والإنس والكواكب ليس بشيء ولا فائدة فيه، وإنما المعبود بحق: هو الله القوي الغالب القاهر، الكبير المنتقم من الكفرة، المشركين مع عبادته إلها آخر، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه، يعلم ما هم عليه من الأعمال، وسيجزيهم وصفهم، فإنه سبحانه يعلم حالهم، وأنه لا قدر لعملهم، ولا قدر لما يعبدونه.
ثم ذكر الله تعالى الفائدة الملموسة من ضرب الأمثال والأشباه، وهي أن الأمثال القرآنية والتشبيهات الحسّية التي يعقدها ويصوّرها الله تعالى، إنما هي لتقريب الأشياء لأفهام الناس، وتوضيح ما التبس عليهم، ولكن لا يعقلها ويتدبّر معناها، ويدرك المراد منها إلّا أهل العلم والمعرفة، الذين يتجرّدون من العصبية والتقليد، ويتأمّلون في مدلولات الأشياء. فإن قرين الشيء وشبيهه يوضح الأمر، ويجلي الحقيقة.
قال جابر، قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: {إِلَّا الْعالِمُونَ}: «العاقل: من عقل عن الله تعالى، وعمل بطاعته، وانتهى عن معصيته».
ومما يؤسف حقّا أن ينزل مستوى الفكر الإنساني لهذه الدرجة من الدّنو، فإن عبادة الأصنام مجرد أسطورة أو خرافة، ومحض وهم وخطأ. ومما يزيد في الأسف أنه ما تزال هذه العبادة قائمة في زمننا في بعض البلاد الإفريقية كجنوب السودان وغيره، فإن هؤلاء البدائيين، قد يذهبون لنيل أعلى الشهادات العلمية من أوربا وأمريكا، ثم إذا عادوا لبلادهم، عادوا لتعظيم الأحجار والأصنام، وكأن العقل العلمي غير العقل الديني، وأن العلوم العصرية الحديثة لا تفيدهم شيئا في الإقلاع عن عادات وسطهم الديني، وبيئتهم الحياتية القائمة، كما حدثني بعض الأفارقة.
عظمة الخلق الإلهي والبيان التشريعي:
إن أدنى تأمّل في هذا الكون الرّحب، من السماء والأرض والمخلوقات العجيبة فيهما، يرشد الإنسان الحائر إلى العقيدة الحقّة والإيمان الصائب، وإلى العبادة الصحيحة في أسلوبها وجوهرها وغايتها، وتزداد العقيدة تأصّلا وتألّقا وثباتا بتلاوة القرآن العظيم الدّال على أن رسل الله الكرام أقاموا الأدلة الكافية على الإيمان بالله تعالى، وعلى توحيده، ووجوب عبادته، وإن أعرض بعض أقوامهم عن دعواتهم، ولم يقلعوا عن عاداتهم الذميمة. وسبيل عقد الصلة بالله تعالى، وإدراك لذّة مناجاته، وحلاوة مناداته: إنما هو بأداء الصلاة التي تنهى صاحبها إن أدّاها بحق عن كل ألوان الفحشاء والمنكر، الذي ينكره الشّرع والعقل، ومن ذكر ربّه ذكره الله بإفاضة الهدى ونور العلم عليه. وهذا ما أبانته الآيات الكريمة الآتية، قال الله تعالى:


{خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)} [العنكبوت: 29/ 44- 45].
الأسلوب القرآني الرائع يعتمد على ضرب الأمثال والتشبيهات بالأمور الحسّية المشاهدة، كما يعتمد على المقارنة أو الموازنة بين الأشياء ليظهر الحقّ، ويبطل الباطل، وتستقر المعلومات والمعارف في الذهن الإنساني، ومن هذه التشبيهات البليغة كما تقدم: تشبيه عبادة الأصنام ببناء بيوت العناكب، ومن هذه المقارنات اللطيفة: بيان كون خلق السماوات والأرض وما فيهما من كمال وجمال وعظمة، مما يرشد الذهن أو العقل إلى صغر قدر الأوثان وحقارتها، وصغر كل معبود من دون الله تعالى.
لقد أبدع الله السماوات والأرض بالحق، أي بالواجب النّيّر الثابت، لا للعبث واللعب، بل ليدلّ على قدرته العظيمة وسلطانه الشامل، ويثبّت شرائعه، ويضع الدلائل لأهلها، ويعمّ المنافع. إن في هذا الخلق والإبداع لدلالة واضحة على أن الله تعالى هو المتفرّد بالخلق والتدبير والألوهية، وعلى وجوب التوجّه بالعبادة إليه وحده لا شريك له، وعلى ضرورة إعزاز الإنسان وتكريمه، لئلا يعبد مثله أو من دونه، أو ما لا يفيده شيئا.
ولكن لا ينتفع بهذه الأدلة والبراهين، ولا يدرك أسرار الخلق والإبداع الإلهي إلا المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله، لأنهم يستدلّون بآثار الخلق على وجود الخالق المؤثر فيها، وأنه يستحيل على غير الإله المعبود بحقّ أن يكون له إسهام فيها، أو تطلّع إلى ادّعاء شيء من خصائصها وميزاتها الباهرة، فذلك ما لا يستطيعه.
وإذا كان الإله هو خالق السماوات والأرض فإنه تجب العبادة له، وحده، خالصة نقية من أي شائبة، لذا أمر الله تعالى رسوله محمدا صلّى اللّه عليه وسلم وكل مؤمن بأمرين مهمّين يحقّقان العبودية لله، ويوجّهان إلى صحة العبادة، وضرورة الخضوع لأمر الله، وهذان الأمران المهمّان:
أولهما- تلاوة القرآن الكريم وحي الله عزّ وجلّ لنبيّه وأمّته، فإن القرآن إمام ونور، وهدى ورحمة، وشفاء لما في الصدور، ونجاة لمن اتّبعه، وحصن لمن اعتصم به، وعلاج للمحن والأزمات، وتعليم لشؤون الحياة كلها.
والأمر الثاني- إقامة الصلاة بأدائها تامة الأركان والشرائط، وإدامتها في قلب خاشع، وعقل متدبر، ولسان ذاكر، وإشراقة نفس، واستحضار عظمة المعبود، وللصلاة فوائد شخصية واجتماعية كثيرة، فهي تنهى عن ارتكاب الفواحش والمنكرات، وفيها ذكر الله المهيمن على كل شيء في السّرّ والعلن، وإدامة الذّكر وترطيب اللسان به يشعر المصلي بكمال عظمة الله، وذكر الله أكبر من كل شيء في هذا العالم على الإطلاق، فالله هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، وجزء الذكر الذي في الصلاة: إنما هو الذي ينهى بالفعل، لأن الانتهاء لا يكون إلّا من ذاكر لله مراقب له، وثواب هذا الذكر: أن يذكر الله تعالى عبده المصلي، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه: «من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم».
والذكر النافع: إنما هو مع العلم بالله تعالى، وإقبال القلب وتفرّغه إلّا من الله تعالى. وذكر الله تعالى للعبد: هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه. والله عليم بما تصنعون من خير أو شرّ، يعلم بكل قول وفعل، وذلك نوع من التّوعّد على ترك الصلاة وذكر الله، وحثّ على مراقبة الله على الدوام.
مجادلة أهل الكتاب:
إن تحقيق الأغراض أو الأهداف المنشودة يتطلب حكمة معينة ومهارة فائقة، وذكاء وحصافة، وتخطيطا ودراسة، وإن دعوة غير المسلمين للإسلام ومحاولة إدخالهم في دين الله، من أدقّ الأشياء وأعسرها، لأن توارث العصبيات والأحقاد القديمة، يحجب غالبا رؤية الحقيقة الناصعة، ولأن دوام العقيدة أو غرسها، يتطلب قناعة راسخة، وبرهانا واضحا ينسجم مع العقل والمنطق، ومقتضى العلم والمعرفة، لذا كان توجيه القرآن الكريم في شأن جدال أهل الكتاب يتفق مع هذه المسلّمات، ويأمر باستعمال الكلمة الحسنى، والخصلة الخلقية التي هي أحسن، قال الله تعالى مبيّنا منهاجه في الدعوة إلى الإسلام:

1 | 2 | 3 | 4 | 5